من التراث المغربي الصادر حديثا في تطوان "العُمْدَةُ" و"النَّعيم


أحمد السعيدي
 
صدر عن جمعية تِطّاون أسمير بتطوان "سلسلة تراث 6" الجزء السابع والجزء الخامس من :»عُمدة الرّاوين، في تاريخ تطّاوين« لأحمد بن محمد الرَّهُوني (1353هـ/1953م) تحقيق: أ.د. جعفر ابن الحاجّ السُّلَمِيّ، (363 ص)، والجزء السابع من:»النَّعيم المُقيم، في ذكرى مَدارس العِلم ومجالس التّعليم« لمحمد بن محمد المُرير (1398هـ/1977م)، تخريج: ذ. أحمد بن محمد المُرير، مراجعة: أ. د. جعفر ابن الحاجّ السُّلَمِيّ، "سلسلة تراث 9"  (357 ص)، مطبعة الخليج العربي، تطوان، 1430/2009.
وهذه الجهود الدائبة تستحق التنويه والتّشجيع الأتَمَّين الأكمَلَين. وهذا العلاّمة محمد المُرير يقول:"وبالجملَة، فإن ما يصدر من كثير من علماء هذه الأمة، من المؤلّفات العديدة، والمصنّفات الضّخمة، التي تقصرُ الأعمار عن مطالعتها، فضلا عن جمعها وترتيبها وتنقيحها، هو من الكرامات، التي تشملها المعجزات." 1

العُمْـدَة
يظهر أن هذا الكتاب مهتبل في مجمله بالتاريخ العام، وإن كان يتجاوز التاريخ الحَدَثي المقتصر على الأحداث السياسية الرسمية والعسكرية.. إلى محاولة صناعة تاريخ مجرّد لحاضرة تطوان قديما وحديثا من حيث التركيزُ على مختلِف خصيصاتها الثقافية الفردية والجماعية والاقتصادية والاجتماعية والإناسية واللغوية والحضارية.. بمعنى أن "العمدة" (عدد صفحات أجزائه المطبوعة 1423 صفحة) أدخل الحضارة التطوانية -المنبثقة من تفاعلات بين المغرب والأندلس والمشرق- في دائرة المعلوم، وهو ما عَضَده فيما بعد المؤرخ محمد داود وغيره. لقد وفر الرَّهُوني لبني يومه المعاصرين له ولمن هم آتون بعده، أي نحن أبناء اليوم، من المواد الخام الشيء الكثير، فليُتنبّه إلى أهميتها الكبرى، وكونها ذات بال في البحث والدراسة والتأويل.. ليس لتطوان وحدها بل للذات المغربية والعربية الإسلامية كافة. لا ينسين المطالع أن الرَّهُوني مشارك في أحداث عصره، وتاريخه الكبير هذا في ظروف وضعه الممتدة إلى عشرين سنة وشخصية صاحبه السياسية ومضمونه موافق في خطه لـ"عبر" ابن خلدون، أليس ابتغاء كليْهما كتابة التاريخ الكوني أو القومي أو المحلي.. إنهما مؤرخان مشاركان، والمشاركة هنا بمعنى الاندماج في الحياة العامة من وجه، والتخصص والموسوعية من وجه آخر. تُرى هل حاول الرَّهُوني كتابة تاريخ "عمران" تطوان، مع العلم أن "تاريخ ابن خلدون كان من أهم مصادره 2 
لقد أثرت المدرسة الكتانية في كتابة التاريخ المغربي المعاصر تأثيرا كبيرا، وخاصة ما تعلق منه بتلفيق التاريخ المحلي. وهذا الأمر ينطبق على الرَّهُوني وغيره من مؤرّخي عصره وبُعيده. فكما اهتم محمد بن جعفر الكتاني بتاريخ فاس في كتابه "سلوة الأنفاس" المنشور أخيرا من خلال أعلامه القارّين والطارئين، اتجه الرَّهُوني لترسّم خُطى شيخه في الاهتبال بتطوان، إلا أنه انصرف لكتابة تاريخ موسّع "فأثبت مذكراته ورِحْلاته وفهارس أشياخه ومقروءاته، ولخص كتبا وتقاييد له ولغيره.."3 وصنع معجما فريدا للغة أهل تطوان العامية.. وهذا الأستاذ المحقق يقول:"فجاء كتابه هذا تاريخا اجتماعيا سوّى بعض التسوية بين الأعيان وغير الأعيان، وأدرج المنبوذين والمهمشين، واخترق عالم المرأة، واعتنى بالمجاذيب والصلحاء والعلماء والثقافة العامية.."4
غِبَّ هذا كله، هل يمكن لأي باحث في تاريخ المغرب المعاصر أن يغض الطرف عن كتاب مثل "العُمدة" العُمدة، "وعَمِيدُ القوم وعَمُودُهم: سيدهم. وفلان عُمْدَةُ قومه إذا كانوا يعتمدونه فيما يَحْزُبُهم"؟
يمكن أن نقول بإطمئنان: إن "العمدة" مندرج باستحقاق ضمن العُمُد في التراث العربي الإسلامي، كالعمدة في محاسن الشعر وآدابه لابن رشيق، وعمدة الطبيب في معرفة النبات لأبي الخير الاشبيلي، والعمدة في غريب القرآن لمكي بن أبي طالب.. ومن جانب آخر  يعد "العمدة" صنيعة تطوانية صرف، من حيث مؤلفُها: العلامة الرَّهُوني التطواني؛ وناسخها: الفقيه المدقق محمد بوخبزة التطواني؛ ومحققها: الأستاذ الدكتور جعفر ابن الحاج السُّلَمِيّ التطواني؛ وناشرها: جمعية تطاون أسمير التطوانية؛ وطِبِّيعها: مطبعة الخليج العربي التطوانية. لكن قراءها، ليسوا -بالطبع- حُبُساً على هذه الحاضرة، وإنما كان مقصد "إعادة إنتاج" "العمدة" الإسهام في تعديد قرائه، وتبيين مظهر غني من التراث التطواني المغربي العربي الإسلامي المعاصر.

يقول الأستاذ المحقق "هذا، وننبه القراء إلى أنني لم أكن أنوي أن أحقق كتاب "عمدة الراوين" كله، يوم شرعت في تحقيق جزئه الأول. بل كنت أرى أن يبقى تحقيق الأجزاء الأخرى منوطا بغيري من الناس.. بيد أن صدور الجزء الأول، وما لقيه من استحسان الناس، وإكثارهم علي وعلى الأخ النبيل المؤرخ سيدي امحمد بن امحمد ابن عبود، في السؤال عن موعد صدور الجزء الثاني، وترقبهم لذلك.. حملني وحمله على التفكير بجد في تحقيق الجزء الثاني بل الأجزاء الباقية تلبية لرغبة هؤلاء الفضلاء من الناس المتعطشين إلى تاريخهم وتراثهم.."5 ونحمد الله تعالى أن كان تحقيق "العمدة" معهودا إلى الأستاذ المحقق الدكتور جعفر ابن الحاج السُّلَمِيّ، الذي راكم منذ سنوات تجربة ذات بال في مجال تحقيق النصوص المخطوطة المنتمية إلى مجالات الأدب والشعر والتصوف والتاريخ والأنساب.. بمعنى أنه صاحب مشروع رائد في تحقيق التراث المغربي خاصة ما اعتني منه بحاضرة تطوان. ويعد من مجددي خطط التحقيق والفهرسة، متوافقا في ذلك -والله أعلم- مع خطتي الأستاذين المحققين صلاح الدين المنجّد ورمضان عبد التوّاب.
وفيما يتعلق بخطة حقيقه، نشير فيما يتعلق بالجزء السادس إلى عدم إثقال الهوامش أو "التزيّد في العلم" كما يسميه الدكتور عزة حسن، مع شكل الكتاب كله والحفاظ على خصوصيات الرسم المغربي.. ونرجو من الله تعالى أن ييسّر صدور الأجزاء المتبقية، ويعين المحقق وجمعية تطاون أسمير ويمنحهما ما به يستطيعان إتمام ذلك:                      
كما أحسن الله فيما مضى    ***      كذلك يحسن فيما بقي

النَّعيـم
فهرسة تفسيرية حديثية فقهية صوفية كلامية أدبية تاريخية، ذات أبحاث عصرية، وحوادث وقتية، زيادة على موضوعاتها الأصلية. بهذا وسم المؤلف المُرير كتابه الذي يدخل ضمن دائرة الفهارس، ولا نبعد إذا قلنا إنه يعد من بين أكبر الفهارس في التراث الفهرسي المغربي والعربي الإسلامي، إذ يقع في ثمانية أسفار ما بين كبرى ومتوسطة (وصل عدد صفحات أجزائه المطبوعة لحد اليوم 1373 صفحة). ويعد المُرير من تلامذة الشيخ الرَّهُوني حيث يقول عنه:"وشيخنا الرَّهُوني، كان لنا شيخا وصديقا. فكما قرأنا عليه واستفدنا منه، كان لنا به اتصال كبير، وصداقة أكيدة.."6 ويبدو أنه تأثر به في مجال الاعتناء بالتاريخ خصوصا تاريخ مدينة تطوان، ولذلك كان واعيا بقيمة الاهتمام بالثقافة المحلية وكان منفتحا على ماجريات عصره، نستسقي ذلك من قوله:"وأما من حيث مقارنةُ تاريخ سوس، وهو قطر متسع الأرجاء، مشتمل على مدن وقرى ذات أنحاء، بتاريخ تطوان الفريدة وحدها لا يصح إلا إن قوبل بتاريخ تزينت وحدها أو زداغة مثلا. أما قطر سوس بما فيه فيجب أن يقابل بقطر الهبط، الذي يبتدئ من حدود سهل أزغار إلى حدود الريف.." هذه القولة مؤرخة بسنة 1384هـ ومن الغير المستبعد أن صدورها عن المؤلف مرتبط بوقوفه على خبر اكتمال صدور أجزاء "المعسول" العشرين للمختار السوسي سنة 1383هـ، لذلك قال ما قال.
على أي، رغب المؤلف حين تدبيجه ل"النعيم" أن يبرز الناحية العلمية التطوانية عبر فهرسته هذه، وكذا عبر مؤلفاته الأخرى في مجالات القضاء والنوازل والأصول والتصوّف.. والجميل في هذه النشرة أن أعادت اكتشاف هذا العالِم وأسهمت في إلحاقه بالمكانة العلمية المرموقة التي يستحقها، "ذلك أن الفقيه المُرير يجب أن يصنف ضمن المفكرين المغاربة البارزين لعصره لاهتماماته المتشعبة من جهة، ولإبداعه في بعضها من جانب آخر."7
وقد أحسن نَجل المؤلف الأستاذ أحمد المُرير حين انقطع لتخريج تراث والده العلمي -وهو أعلم به وأقرب إليه من غيره- الذي يندرج ضمن التراث المغربي والعربي الإسلامي بكليته، والتعريف به وفك العزلة عنه ليصير في متناول الباحثين والدارسين والقراء عموما. والمقصود بالتخريج –حسب المختار السوسي- الكتابة على الآلة الكاتبة– أو حسبما هو مطبَّق في "النعيم": إعادة كتابة النص كتابة واضحة، وترقيمه بعلامات الترقيم الحديثة، وإبراز فِقْراته ووضع عنوانات لها، وتوثيق بعض نقوله وضبط بعض مشكله وفهرسته..كما لم يأل الأستاذ السُّلَمِيّ جهدا في مراجعة "النعيم" قدر المستطاع.
أما ظاهرة اعتناء الأبناء بتراث آبائهم المؤلفين فليست حادثة في الملّة العلمية المغربية، فهذا العلامة محمد المنوني 8 يذكر جملة من هؤلاء الأبناء البررة، ومنهم: عبد العزيز بن الحسن الزياتي (1055هـ) الذي استخرج حاشية والده على المختصر، ومحمد العياشي بن الحسن اليوسي الذي جمع ثلاث مؤلفات لوالده وخرّجها وهي القانون والديوان والرحلة.. كما نلفي آخرين مثل محمد الطالب ابن الحاج الذي جمع ديوان والده حمدون، ومحمد المختار السوسي الذي هذّب رحلة والده الحجازية وخرّجها، ونجله عبد الوافي الذي اهتم بنشر مؤلفاته، والأستاذ عباس الجراري الذي نشر عددا من مؤلفات والده، والأساتذة الكتانيين الذين اهتبلوا بنفائس البيت الكتاني وخرّجوا عددا منها، والأستاذة حسناء داود التي خرّجت بعض كتب والدها..
والحق يقال أن "النعيم" كتاب فرد في بابه يجمع إلى التخصص الموسوعية وإلى استشكال الفقيه أريحية الأديب وإلى إخبارية المؤرخ روحانية المتصوف.. أليس "النَّعِيمُ والنُّعْمى والنَّعْماء والنِّعْمة، كله: الخَفْض والدَّعةُ والمالُ، وهو ضد البَأْساء والبُؤْسى." فالمطالِع يشعر بأن هذا "النعيم" نعيم بالفعل والصفات، ولا ينفصل عنه في شيء، نعيم عِلم لا ينضب.. يُجسّد ظاهرة المشاركة في العلوم أشد التجسيد، خاصة مع كون المُرير عالما شبه معمَّر (1887-1977)، أي ينتمي من وجه إلى جيل العلماء المحافظين على التقاليد الإسلامية في المعاش والمعاد، ومن وجه آخر، يجابه، ضمن النخبة التي ينتمي إليها، التحولات الحادثة بفعل تعاظم قوة أوربا وسيطرتها على مجالات الإنتاج.. وهبوب رياح الشرق العربي بأفكاره المستجَدَّة.. لذلك حاول المؤلف أن يكون في موقف وسط، حيث يصفه المؤرخ داود بأنه "عالم متنور يطالع الصحف والمجلات والمؤلفات الحديثة، وينقل من كل ذلك ما يعثر عليه من الفوائد، كما أنه غير غافل عن تتبع سيْر النهضة الحديثة ومعرفة اتجاهاتها."9 وقد آلى على نفسه تعرُّف هذه المستجدات ومحاولة فحصها بمنظور العالم المغربي السني المحافظ على ثوابته العقدية الأشعرية والمذهبية المالكية والصوفية السنية والقرآنية الورشية.. لذلك تجد في "النعيم" بسطا ومناقشة لقضايا المرأة والشعوذة والأوبئة والغناء والتواجد عند الصوفية والصعود إلى القمر وأسباب الزلازل والقنبلة الذرية والمذهب الاشتراكي ورؤية الهلال والإقامة بدار الكفر.. وهي قضايا أدلى فيها برأيه بعد سرد آراء طائفة من علماء الأمة القدامى والمحدثين.
هكذا، نلفي في هذين الكتابين المدبجين في القرن الماضي والصادرين في القرن الحالي ما يستطيع به القارئ سَنَّ تبالغٍ آخر معهما يكون مقصَده اكتشاف تراثه الداني لا القاصي بَلْهَ ذاته المغربية الدانية لا القاصية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 
1-النعيم المقيم: 4/453.
2 -احمد الرَّهُوني، مؤرخ في مواجهة دراما التحول، للاستاذ إبراهيم الخطيب، العلم الثقافي، 14 نونبر 1998.
3 -مقال بمناسبة صدور الجزء الأول من الكتاب للأستاذ محمد الشريف في العلم الثقافي، 03 أبريل 1999.
4 -عمدة الراوين: 4/342.   
 5 -نفسه: 2/254-255.
 6 -النعيم المقيم: 2/12.
7 -نفسه: 1/9 من تقديم الأستاذ امحمد ابن عبود للكتاب.
8 -ينظر بحثه:"ظاهرة برور الأبناء العلماء بالآباء المؤلفين": 39-41، ضمن ندوة عبد الله الجراري، الحلقة الثانية:"العناية بالقرآن الكريم وعلومه في المغرب"، الرباط، 1995.
9 -على رأس الأربعين، لمحمد داود، ص. 125، تقديم وتعليق: حسناء داود، منشورات جمعية تطاون أسمير، تطوان، 2001.

تعليقات