حواش على كتاب
"محمد
بن
مسعود المعدري: حياته وآثاره العلمية"
بقلم: أحمد السعيدي
بقلم: أحمد السعيدي
(قدمت هذه القراءة بحضور المؤلف في المعرض الجهوي للكتاب بأكادير، نونبر 2012)
1.
بــارود البلـد:
قال
بدر الزركشي (794هـ):
كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَقُولُ: الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ :عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ وَالنَّحْوِ ، وَعِلْمٌ لَا نَضِجَ وَلَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، وَعِلْمٌ نَضِجَ وَاحْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ."([1])
كَانَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ يَقُولُ: الْعُلُومُ ثَلَاثَةٌ :عِلْمٌ نَضِجَ وَمَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْأُصُولِ وَالنَّحْوِ ، وَعِلْمٌ لَا نَضِجَ وَلَا احْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ، وَعِلْمٌ نَضِجَ وَاحْتَرَقَ وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ."([1])
ينبئ
القول السالف تجوّزا، إلى عظم الاشتغال بالفقه من دون غيره في الحضارة الإسلامية،
هذا أمر شائع في سوس أيضا، لقد سمي الفقه "بارود البلد"([2])، إشارة إلى كونه سلاحا،
كما نجد تشبيهه بالسيف اليماني في بيت:
مسائل
الفقه أسياف يمانية فالفقهاء
بها صالوا على الجَهَلَةْ([3])
الفقه
بما هو سلاح (بارود، أسياف) يجعل حامله في غُنْيَةٍ عن غيره ويهبه قوة وأمْنا، هذا
ما يُفهم ربما من باطن العبارة (بارود البلد).
الفقيه
قوي إذن بامتلاكه العلم الديني عامة، وعلم الفقه خاصة وهو "العلم بالأحكام
الشرعية العملية، المكتسب من أدلتها التفصيلية.."([4]) الفقه يهب الفقيه في سوس
السلطة العلمية والحظوة الاجتماعية ممثلة في المشارطة والتدريس والحكم في القضايا
والنوازل وقسمة التركات والفصل في الخصومات، "فبذلك تنمو
الثروة
للأساتذة بسرعة، ويظهر عليهم رونق الغنى وأبَّهة السيد المرموق الذي يَجر
ذيولا
يغبطه عليها العامة الأميون، وكيف لا يستغنون بذلك.. وقد غلب على الناس هناك أن
ظنوا أن للعالم حقّا بلا ريب رزقين، وأن لغيره رزقا واحدا.."([5])
نلفي
أمثلة كثيرة على استعظام الفقه واطّراح
غيره في سوس، مثل هذه الأقوال:
-
قال فقيه سوسي
لولده:"اجتهدْ في تحصيل علم البلد أولا – يعني الفقه-
ثم عليك بغيره إن وجدتَ الوقت."([6])
-
"فزعم بعضهم أن غير الفقه
والنحو ليس من بارود البلد -على حسب تعبيره- فيلقى غالبا تدريسه ظِهريا.."([7])
ما
صلة كل ما مرّ بابن مسعود؟
يقول
مؤلف الكتاب د. إحيا الطالبي:"وهناك أمران أود طرحهما.. أولهما: مراعاة
التخصص "فقه المعاملات": ولأجل ذلك تم التركيز في باب الدراسة
على العلوم الشرعية (الفقه وأصوله والحديث) محاولا إبراز عمل ابن مسعود ومنهجه
ومصادره فيها."([8])
يحتفي الكتاب إذن
ببارود البلد من حيث:
- عدم
خروج مؤلفه عن التخصص فيه (الدراسة الأكاديمية بحثا وتدريسا)؛
- دراسة
تراث جده المشتهَر بمشاركته في العلوم خصوصا الفقه حتى وصفه المختار السوسي بأنه
"فقيه متمكن"([9]).
- عكوف
المؤلف على تحقيق تراث جده الفقهي والتغاضي عن تصانيفه في العلوم الأخرى.
يقول مسعود المعدري
والد المترجَم:"هذا بارود البلدة والغير كالبيان والمنطق والأصول لا يسألك
فيه أحد."([10])
هي سلطة الواقع التي لا مفر منها باعتراف والد ابن مسعود؛ نعم.. !الفقه عمدة
العلوم، البقية أذناب له.. لهذا يشعر قارئ الكتاب بمؤلفه وهو يقود سفينته
متجاوزا المداخل والفصول والمباحث والمطالب، إلى حيث يريد هو إلى بارود البلد،
بمفهومه الدقيق (الفقه)، والشامل (العلم الديني)، منتهيا إلى القول:"أسفرت
الدراسة بعد تصنيف مذكراته الفقهية عن مدى ولوعه واهتمامه بالمناظرة والمناقشة
الفقهيين، وتبيّن بعد إجراء دراسة مقارنة بينه وبين محاوريه مستواه في المناظرة
والبحث الفقهي وهو مستوى عال في استحضار النصوص واستيعابها."([11]) لكن هل سيظل هذا معتمد
ابن مسعود في حياته؟ أكيد أن خوضه التجربة الصوفية، سيغير كثيرا من اطمئنانه إلى
بارود البلد ويقينه فيه، كما وقع لكل من الغزّالي وابن عجيبة وغيرهما.
2.
تـراث الجـدّ:
يكتب
د. الطالبي عن جده المباشر ساعيا إلى توثيق تركته العلمية ودراستها، معتبرا الأمر
داخلا في عِداد النقط الآتية:
-
إبراء الذمة:"أما
الدوافع الذاتية، فتتلخص في العلاقة التي تربطني بالمترجم له فهو جدي المباشر،
واشعر بأن ذمتي لم تبرأ ما لم أوف هذه الشخصية حقها وأنقذها من الضياع
والنسيان."([12])
-
تنفيذ
وصية الوالد:"وأرجو الله تعالى أن أكون قد نفذت وصية
والدي رحمه الله الذي كان يتحسر على ضياع تراث الجد وإنتاجه الأدبي
والفقهي.."([13])
-
موقف حضاري: "فإن
التغني بمناقب الآباء والأجداد، والإشادة بالماضي والأمجاد غير كافيين لتحقيق
النهضة العلمية المطلوبة، وتوفير شروط الحضارة المرجوة، ما لم يكن هناك إحساس عميق
بما آل إليه التراث العربي الإسلامي.. وقد يكون هذا الإحساس وحده.. كافيا لتحفيز
الأبناء لإنقاذ ما حققه الآباء وخلفوه من موروث علمي وثقافي، وكشف النقاب
عن كثير من جوانبه المظلمة واستجلاء جوانبه المشرقة."([14])
الكتاب
في نظر د. الطالبي إبراء ذمة وتنفيذ وصية، وإنقاذ تراث الجد خاصة وتراث العائلة
عامة. العمل كله ملقى على عاتق المؤلف فيما يشبه فرض الكفاية، فهو أستاذ باحث في
الدراسات الإسلامية، وخرّيج جامعة القرويين، وأحد ورثة العلم البونعماني.. المطلوب
هو إنقاذ "بارود البلد" وحامله من الاندثار: ابن مسعود وتراثه، وأن يكون
الباحث الشرعي مؤرخا للأسرة أسوة بقريبه الشاعر الحسن البونعماني([15]) لكن الأمر ليس بالهين كما
يُظن، ذلك أن عمل د. الطالبي علمي أساسا منضبط لمعايير الموضوعية والعلمية
والحياد.. وكأن لسان حاله يقول: كيف السبيل لإنقاذ "تراثنا"؟ هل تسمح
الجامعة ببحث أكاديمي ينجزه باحث عن عائلته وجدّه؟!
سبق
العلامة المختار السوسي إلى بسط المسألة بخصوص ترجمة والده، يقول:"هذا هو والدي الذي بسببه خرجت من العدم إلى
الوجود..، ولكنه يصعب مع ذلك على من أراد أن يتحرى الحق في مثل هذا المقام، أن
يذكر لأبيه كل ما يعرفه كل معاصر له قبل أن يعرفه هو.. أن يجد بين يديه -أمام من
حُبّب إليهم انتقاد كل شيء- مسلكا يخرج منه سالما، لأنه إما أن يطنب وإما أن يوجز
وكلاهما شطط عند بعض الناس، فالمطنبون يُتهمون بالتحيز..، والموجزون يُتهمون
بالعقوق.. ولذلك يسلك من يسلك هذه الطريقة عقبة كأداء صعودا قلّما ينفذ فيها
نافذ إلا أرضى قوماً وأسخط آخرين."(([16]))
لقد سلك د. الطالبي هذه العقبة الكأداء، لا مناص من
تنفيذ وصية الوالد.. الشيء شبيه بسلوك الخَبار [الأرض المهملة]، ومن سلك الخَبارَ([17]) فلابد أن يكون عثورا. يقول د. الطالبي:"نعم، لم
يسبق لأحد أن قدم دراسة شاملة ووافية عن شخصية ابن مسعود وجهوده في كل المجالات
التي استأثرت باهتماماته، وهذا ما توخت هذه المحاولة أن تنهض به."([18])
العثار والعقبات كثيرة، منها السعي للحصول على وثائق الأسرة المشتتة بين
أفرادها، وصعوبة قراءة بعض الوثائق والمخطوطات المهترئة، ولعل الأصعب، كيف يترجم
لابن مسعود حفيده وهو متجرّد من قرابته له، بل إنه لم يره حتى. يريد القارئ من
المؤلف أن يتلو القسَم وهو ينجز بحثه! الأمر أشبه بشهادة أمام قضاة، دفاع طالب عن أطروحته
أمام لجنة مناقشة جامعية. توفّق الطالب الباحث الذي كانه د. الطالبي، في إدخال
تراث جده إلى الجامعة بجعله بحثا أكاديميا ذا بال، ومدللا كل العقبات.
3.
ابن مسعود وابن عجيبة
كان
ابن مسعود ناصريا قبل أن يبدأ في البحث عن شيخ مربٍّ وهو على رأس الثلاثين، فمرّ في
تجربته الصوفية بثلاث مراحل:
- الأولى
(1314-1317هـ)
مع الشيخ ماء العينين (1328هـ)؛
- والثانية (1317-1320هـ) مع الشيخ بلخير البوشْتّي (1352هـ)؛
- والثالثة (1320-1330هـ) مع الشيخ
علي الإلغي (1328هـ).
وهي تجربة يصفها د. الطالبي بـ 'التحوّل'([19]) في حياة ابن مسعود، ويشبه
المترجَم بالإمام الغزّالي (505هـ)، الذي عُرف بتشكّكه في قدرة العلم وحده على
الوصول بالإنسان إلى السعادة والاطمئنان. لم يلبث المترجم في المعينية كثيرا، ومرّ
خفيفا بطريقة البوشتي التي انصرف عنها بسبب ادعائه المهدوية وتساهله في طهارة
الحدث.. ليجد ضالته عند الشيخ علي الالغي في الطريقة الدرقاوية. إنه شيء أكبر من
التحول كما جاء عند المؤلف.. الشيخ أحمد ابن عجيبة([20]) هو من يوجد في خلفية ابن
مسعود الذي يستعيد سيرته بانقلابه الكبير من الفقه (علم الظاهر) والتصدُّر في
القرويين وفاس، إلى الخرق والتجرد بعد انتمائه إلى الدرقاوية (علم الباطن) على يد
الشيخين البوزيدي والدرقاوي، وابن مسعود من التدريس في البونعمانية إلى أتباع
البوشتي وخدمته وخرق العادة والتجرد والسؤال والسياحة بعد اعتناقه الدرقاوية أيضا.
"يستعد لمغادرة عالم التأليف والأبحاث العلمية والنوازل الفقهية، وتوديع
القلم والمحبرة، مستقبلا حياة السبحة ولبس المرقعة وحمل العكاز، والتبتل والتقشف
والزهد.."([21])
من ثم، نلحظ كيف يأتلف ابن مسعود (خصوصا في مرحلته
الدرقاوية) وابن عجيبة في سيرتيهما من خلال التخصص (الفقه = بارود البلد)،
والتدريس (العلوم الشرعية)، وانقلاب الحال([22]) (من الفقه إلى التصوف)،
والطريقة (الدرقاوية) وصفة التصوف (الخرق والتجرد والسؤال..) ورد فعل المجتمع
(صدمة الأهل ونكير العلماء).. نذكر من ذلك:
-
التخلص
من المتاع: انصرف المترجم إلى تصفية ما درّه عليه ممارسة النوازل
والقضاء مثلما فعل ابن عجيبة الذي "باع كتب العلم الظاهر، وتخلص من المتاع
الزائد.."([23])
-
خرق العادة: "صنع ذلك مرة بإذن شيخه في موسم
تازروالت، فصادف الفقيه الحاج الحسين الإفراني (1328هـ).. والأستاذ يمد يده ويقول: ألا من صدقة؟ فقال له
الحسين الافراني منكتا: إن السؤال وطلب الدنيا من أسهل الأشياء عند النفس والأصعب
هو العطاء."([24])
ونفس الشيء عند ابن عجيبة الذي "أمره شيخه بتنظيف السوق وحمل الأزبال، ثم
أمره بالسؤال أمام الطرقات.."([25])
-
السياحة: بعد النجاح في التجرد وخرق العادة مما يدخل ضمن
"التطهير"، يأتي دور السياحة، فابن مسعود "ذهب إلى السياحة مع
الشيخ الالغي.. إلى تمانار بحاحا، لكن الشيخ رده من تمانار عن ذلك، فأمره أن يلازم
التدريس في بونعمان.."([26])،
أما ابن عجيبة، فقد "خرج بإذن شيخه سائحا في قرى الشمال المغربي وبعض المدن
الأخرى حتى وصل إلى الرباط وسلا.."([27])
هكذا نرى التشابه الواضح بين ابن مسعود وابن عجيبة
الدرقاويين، وما أحوجنا إلى عقد مقارنة معمقة بين المتصوفين خاصة، والتصوف بجنوب
المغرب وشماله عامة.
4.
آفاق الرواية:
كتب د. الطالبي عن مرحلة مشيخة البوشتي لابن مسعود، وتساءل: كيف اغتر ابن
مسعود (العالم) بالبوشتي (الأمي ["أعامي" بالأمازيغية])؟ كتبت مباشرة في
الحاشية هذه الملاحظة:"علاقة ابن مسعود بهذا المتصوف تستحق أن تكون موضوعا
لرواية شيقة". وتساءلت في الوقت نفسه، عن مدى استغلال الروائيين في المغرب
للتراث الصوفي في أعمالهم الروائية. سيقول قائل: الرواية تخييل سردي أساسا، ولكن
أليس التصوف حريّا بالتحويل إلى مادة روائية؟! وقد ظهر اتجاه روائي حديث يوصف بالرواية العالمة،
وهو اتجاه يستمدُّ من التراث السردي والتاريخ والتصوف والفكر ولا يبعدها، بمعنى أن
الروائي يشتغل لإنجاز روايته كأي باحث في العلوم الإنسانية.. ومن هذه النصوص الروائية
التي تكتب سيَر شخصيات واقعية أو متخيلة تنتمي إلى النخبتين السياسية أو العالِمة:
"مجنون الحكم" (عن الحاكم بأمر الله الفاطمي)، و "العلاّمة"
(عن ابن خلدون)، لبنسالم حميش؛ و "الإمام"، (عن المهدي ابن
تومرت) لأحمد الخمليشي؛ و "ليون الإفريقي" (عن الحسن الوزان
الفاسي)، لأمين معلوف؛ و "آخر الفرسان" (عن بديع الزمان
سعيد النورسي)، لفريد الأنصاري، وروايات عبد الإله بنعرفة: "جبل قاف"
(عن محيي الدين ابن عربي)، و"بلاد صاد" (عن أبي الحسن
الششتري)، و"طواسين الغزالي" عن أبي حامد الغزالي)،
و"ابن الخطيب في روضة طه" (عن ابن الخطيب)..
لست مؤهلا للخوض في قضايا الرواية، لكن كل ما أتمناه أن يضاف نص جديد إلى
الرواية المغربية السوسية يحكي سيرة ابن مسعود الفارقة والمتميزة والعجيبة.. إنها
سيرة مثيرة استطاع د. الطالبي جمع أجزاءها وبناء محطاتها ومراحلها.. وقبله فعل ذلك
العلامة المختار السوسي. ابن مسعود في حاجة إلى عمل سردي يدخله الفضاء الروائي
المغربي الرحب.. وأكيد أن هذا العمل الروائي سيرى النور.
على سبيل الختم:
حاصل القول، قدم د. الطالبي عملا جليلا للخزانة السوسية، كتب سيرة العالم
الكبير ابن مسعود المعدري البونعماني، ووثق تراثه الفقهي خصوصا، موفرا إياه
للباحثين والمهتمين، ومعززا ذلك كله بوثائق ومخطوطات غميسة من خزانة الأسرة
العلمية المعدرية وغيرها. لقد نفذ د. الطالبي وصية والده، ورد دينا في عهدته تجاه
التراث المغربي عامة، والتراث السوسي خاصة، والتراث المعدري البونعماني على الأخص،
وأختم بما ورد عند العلامة المختار السوسي:"كنا نسمع قديما: إن علماء سوس
أربعة: اثنان مسنان، واثنان شابان. فأما المسنان: فالحاج أحمد الجشتمي، ومحمد بن
العربي الأدوزي، وأما الشابان فمحمد بن مسعود، والمحفوظ الأدوزي."([28])
تعليقات
إرسال تعليق