حكاية الحاحي بقلم صادق

حكاية الحاحي بقلم صادق
قراءة في كتاب "حركة الشيخ يحيى الحاحي
وقيام امارة تارودانت" للأستاذ نور الدين صادق
بقلم: أحمد السعيدي 


 15 مارس 2013)

توطئة
يقول عبد الله العروي:"إن القارئ غير راض عمّا يجده اليوم في السوق من الكتب حول تاريخ المغرب. إذا رجع إلى المؤلفات القديمة وجدها مليئةً بالحروب والثورات والخرافات وأشعار المناسبات. إذا التفت إلى الرسائل الجامعية تاهَ في نظريات مبهمة عن المنهج أو في تحليلات دقيقة حول منطقة أو أسرة أو تنظيمة اجتماعية. وإذا التجأ إلى كتب الأجانب رآها تزخر بأحكام استعمارية تعكّر عليه صفو يومه فيسخط ويقول: أين مؤرخونا؟ لماذا لا يعيدون كتابة تاريخنا؟"[1]
لماذا تأليف كتاب عن حركة سياسية وزعامة محلية في قرية بجنوب المغرب؟ ماذا يفيد ذلك؟ وكيف السبيل لتأريخها وقد انقضت عليها أربعة قرون؟ ماذا يريد المؤرخ بالضبط من اعتنائه بتاريخ البادية عوض الاهتبال بتاريخ الحواضر الكبرى (مراكش، فاس..)؟ ما الذي يلقي بفقيه عالم متصوف في خضم الرحى السياسية الطاحنة، بحيث تختفي الحدود بين أهل السيف (السلطة الزمنية) وأهل القلم (السلطة العلمية)؟ أفلاطون نفسه يقول بأن الاحقّ بالحكم هو الفيلسوف!
هذه أسئلة حفت بهذه السطور، مع صدور كتابين عن الحاحي:
1.      حركة الشيخ يحيى الحاحي وقيام إمارة تارودانت، الجزء الأول: من الدعوة الى الإمارة نور الدين صادق، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2010. 135 ص.
2.      زاوية تافيلالت الزداغية للشيخ عبد الله بن سعيد المناني بضواحي تارودانت، دورها الديني والعلمي والسياسي في أربعة قرون، أحمد بزيد الكنساني، منشورات جمعية تالكجونت للتنمية والأعمال الاجتماعية، مطبعة وراقة تارودانت، 2012. 154 ص.
ارتياب
يقول المؤلف:""من انطلاق رحلة بحثنا[2] في تاريخ تارودانت أواسط القرن الثمانينيات من القرن الماضي، استوقفنا بشكل لافت ذلك التضارب في الآراء والمواقف من حركة الشيخ ابي زكرياء يحيى بن عبد الله الحاحي.."[3]
يظهر أن غرض الكتاب التصحيح والتدقيق والنقد، إنه ينظر بارتياب الى ما كُتب عن الحاحي في البحوث الأجنبية خاصة والمغربية المتأثرة بها، عماده في ذلك مؤرخو الحاحي مثل التمنارتي والإفراني بما هما معاصران له ولحركته وإمارته في تارودانت. ويتجاوزهما –مضطرا بسبب ندرة الوثائق- إلى ما اصطلح عليه في البحث التاريخي المصادر غير الارادية مثل النوازل والفتاوي ومشجرات الأنساب ونصوص الكرامات والمناقب والرسائل الإخوانية..
لاشك أن قارئ الكتاب يلتقط انفاسه وهو يتابع الحاحي من فاس الى مراكش ثم الى المشرق في حجته وأوبته وتصدره لأمور الزاوية والصلح بين القبائل ثم الانحياش الى الامير زيدان وإعلانه دويلة تارودانت كما هو حال دويلة إيليغ في نواحي تزنيت، يقول عمر أفا ".. بحيث يكاد المرء يستشعر من خلال قراءته للكتاب، سماع هدير التهاليل ترتفع بأصوات المجاهدين، تقاطعها صهلات الخيل وهدَّات البارود.."[4] يقول القارئ: أكانت هذه المدينة حقا مسرحا لكل هذه الأحداث؟! تكبر في عينيه المدينة، ويثني على الباحث الذي حكى له قصة الحاحي.
اندثار
تشابه البدايات ينطبق على مكتبتي تامكروت وتافيلالت التي اشترك في تكوينهما علماء أسرتين علميتين الأولى ناصرية والثانية حاحية منانية .. حتى قال المؤلف بعد حديثه عن ضخامة رصيد المكتبة:"..لكن كل ذلك مصيره الضياع، بحيث لم يبق من هذه المكتبة الضخمة الا ما ظل متفرقا في المكتبات الخاصة في سوس وخارجه.." ص 77
بين اندثار تراث المكتبة الحاحية وصمود المكتبة الناصرية أمر يدعو الى العجب، فهل لذلك صلة بثورة الحاحي ومهادنة الناصريين للمخزن؟! لاشك أن في هذا الاندثار فقدانا لمصادر غميسة من تاريخ المغرب، ثروة من المخطوطات والوثائق ذات النسخ المحدودة التي تستلزم أزمانا لجمعها وترتيبها.. ومنها مؤلفات الحاحيين أنفسهم[5]. ويجدر التنبيه الى أن فقدان الكتب وتلفها عمت به البلوى في تاريخ المغرب خاصة خلال العصر الوسيط، يعبر عن ذلك عبد الوهاب بن منصور في فقرة ضافية:"ومن المزري المبكي أن تخلّد أراجيز في الفرائض، وتأويل الأحلام، ولا يبقى أثر ولا عين لدواوين فحول الشعراء(...) أين تاريخ الأدارسة لابن الودون؟ وأين تاريخ فاس لابن جنون؟ وأين تاريخ المرابطين لابن الصيرفي؟ وأين تاريخ فاس لابن الوراق؟ وأين تاريخ سجلماسة والبصرة والنكور للرقيق؟ وأين المقباس لابن حمادة؟ (...) وأين ذيل الصلة لابن فرتون؟ وأين البستان لابن أبي زرع؟ وأين الإشادة للعزفي؟ وأين الفنون الستة للقاضي عياض؟ وأين الكواكب الوقادة للحضرمي؟ بل من هو ابن الودون، وابن جنون؟ ومن هو ابن غالب والوراق؟ ومن هو البرنسي وابن حمادة وابن صاحب الصلاة وابن القطان؟ ومن هو عبد الواحد المراكشي والحضرمي والبيدق وابن أبي زرع؟ من كان يعرف عنهم غير الإشارات العابرة والفروض والاحتمالات فليخبرني."[6]
نحت
يصرح المؤلف بعدم وقوفه على مصادر ذات بال، وهو يمنّي النفس بالعثور على ما تبقى منها، يقول".. في حين تعذر الاطلاع على ما قد يكون تبقى منها (بيوعات، عقود شراء، رسوم الملكية)، نظرا للحساسية التي يثيرها الاطلاع عل مثل هذه الوثائق عند المعنيين بالامر، مما يدفعهم الى الامتناع عن الادلاء بها، أو حتى مجرد الاعتراف بوجودها.." (ص 104)
بيد أن هذا التلف والخصاص لم يصرف الباحث عن النحت من صخر في تجريد تاريخ الحاحي وأسرته، حين لجأ إلى استعمال مصادر أخرى جديدة تعرف عند المؤرخين بالمصادر غير الارادية من قبيل النوازل والفتاوي ومشجرات الأنساب.. فضلا عن الرواية الشفوية، ولعل الرّهان هو -ما يسمّيه العروي- "توسيع مفهوم الوثيقة"[7].
بذل المؤلف جهدا مشكورا في البحث، صحيح ان الخزانات اندثرت والكتب فقدت.. لكن تدارك هذا النقص ليس مهمة شخص لوحده، وإنما مهمة الجامعة ومراكز البحث ومؤسسات المجتمع المدني.. لا نتوفر في سوس على خزانة نموذجية مجهزة بقسم مخطوطات ووثائق، ولا مركز مخطوطات يجمعها ويفهرسها ويقوم برقمنتها، ولا منح تخصص للباحثين لبدء العمل.. أتمنى أن يتغير الحال قريبا جدا.
كرامة
يقول المؤلف:"ورغم أن الحكاية تروى في باب إثبات كرامات الشيخ، فانها تحمل في طياتها عددا من العناصر الجديرة بالتأمل.." ص 61. 76. ما يعني أنه لا يتنكَّب نصوص الكرامات والمناقب خاصة، والخطاب الصوفي عامة في بناء الحدث التاريخي، مع قلة المصادر الإرادية. وهي خطوة تسير في اتجاه البحث التاريخي الجديد.
نقد
يقول المقريزي:""واهل كل قطر اعرف باخباره.."[8]، هذا منطبق على المؤلف الاستاذ نور الدين صادق، فلولا انتماؤه الى المنطقة ومعرفته بها، ما تمكّن من تصحيح أوهام باحثين أجانب ومغاربة عن سيرة الحاحي وثورته.. مثل الفرنسيين جاك مونيي وجوستنار.. والمغاربة علي صدقي ومحمد حنداين..
لقد أعمل المؤلف النقد بما هو "أهم فضيلة على المؤرخ ان يتحلى بها عند تعامله مع جميع أنواع الوثائق والمصادر.."[9]، واردفه بترجيح ما يعتقده صحيحا معتمدا "الفوائد الجمة" للتمنارتي. نجد ذلك مبثوتا في مواضع عديدة من الكتاب مثل:
-       "إن الصورة التي قدمها الباحثان المذكوران [مونيي وحنداين]... ص 89
-       ".. ومن ثم يصبح كل ما راج في بعض الدراسات الحديثة... ص 91.
-       "لقد أفضى صمت المصادر المغربية المطلق[10]، عن اخبار يحيى الحاحي وتحركاته ومواقفه خلال هذه المرحلة إلى ترك الباب مفتوحا أمام الباحثين الاجانب، ومن اعتمدهم من المغاربة. ص 87.
نقد المصادر الاجنبية لا ينبئ بموقف متحفظ منها، بل تم استثمارها وغيرها في الكتاب، مثل كتابات: كلنير وباسكون وبيرك ودوكاستري ومونتاني.. لكن توجد مصادر جديدة ظهرت مؤخرا يمكن الرجوع اليها مثل: بذل المناصحة في فعل المصافحة[11] للبوسعيدي، ومترعات الكؤوس في اثار طائفة من ادباء سوس للمختار السوسي.
ختام
بين التقديم المفصّل لثورة الحاحي والنقد وتصحيح الاوهام والترجيح من أجل أعادة بناء تاريخ حدثي مضبوط لتارودانت ونواحيها، يقع بحث الاستاذ صادق، الذي بذل جهدا ذا بال في استدعاء احداث القرن السابع عشر في سوس وجنوب المغرب الى الواجهة، معتمدا في ذلك على خبرته الطويلة بالنصوص والمصادر المحلية ومعرفته الكبيرة بالوسط المدروس، فضلا على تأنيه في النقد والتصحيح، وتوصله الى خلاصات ونتائج علمية قيّمة، وأتمنى ألا يكون هذا الجزء بيضة الديك، وأن يصدر الجزء الثاني قريبا بإذن الله.




[1]- مجمل تاريخ المغرب: 1\11، بيروت، 1996.
[2]- من أعماله المطبوعة: تارودانت من خلال مقيدات محمد بن عبد الرحمان التلمساني (ابن الوقاد)، 1998، و"صفحات من تاريخ الحركة الوطنية بتارودانت، 1999، و"تارودانت حاضرة سوس، إسهام متواصل في بناء الدولة المغربية منذ ما يزيد عن 1200 سنة، 2009.
[3]- من مقدمة الكتاب: 9.
[4]- من تقديم عمر أفا للكتاب، ص. 5.
[5]- ينظر ص 77 من الكتاب، ومن ذلك كتاب "التجلي فيما وقع بين يدي سيدي يحيى وبين ابي محلي من التجلي".
[6]- الإعلام بمن حل بمراكش وأغمات من الأعلام، ج. 1/ب، المطبعة الملكية الرباط، 1997.
[7]- مجمل تاريخ المغرب: 1\15.
[8]- اتعاظ الحنفا للمقريزي: 1\232، نقلا عن "تاريخ الغرب الاسلامي من خلال جغرافيات مشرقية": 1\50، د. عبد الرزاق ابو الصبر،  دار الكتب العلمية، بيروت، 2013.
[9]- مناهج البحث في الانسانيات والعلوم الاجتماعية، البحث التاريخي انموذجا، عبد الاله بنمليح ومحمد استيتو، ص 62، رؤية للنشر بالقاهرة، 2006.
[10]- لا يستحب الاطلاق هنا، لأن المؤلف لم يطاع على كل المصادر، ولو اطلع عليها، لما امكنه الجزم بما قال، لامكانية وجود مصادر جديدة دفينة او مفقودة غير معروفة.
[11]- كان هذا المخطوط – الذي ذكره المؤلف ونقل عمن نقل عنه- مفقودا وظهرت منه ورقات في مكتبة آل سعود بالدار البيضاء رقم: 331/ 5 Manus، والخزانة الحسنية بالرباط.

تعليقات

  1. أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.

    ردحذف

إرسال تعليق