التخطي إلى المحتوى الرئيسي

دواء الموت

مجلة البينة، وزارة الدولة المكلفة بالشؤون الإسلامية، مديرها: علال الفاسي، رئيس التحرير: عبد الكريم غلاب، السنة الأولى، العدد العاشر، رمضان 1382/يبراير 1963، ص. 11-21.
دواء الموت
للأستاذ محمد الفاسي
عميد الجامعة المغربية

في آداب الأمم الغربية لون من الإنتاج الأدبي قليلا ما نجد له مماثلا في الأدب العربي وهو التعرض لنقد بعض المظاهر الاجتماعية في أسلوب خيالي فكاهي لا يمت للأوضاع المتقدة بصلة مباشرة، ولكنه يعنيها بالذات وذلك مثل "الرسائل الفارسية" للكاتب الفرنسي مونتيسكيوه و "مغامرات بيكويك" للكاتب الإنكليزي ديكنس وغيرها من المؤلفات التي لها مقلم مرموق في الأدب العالمي.
وأظن أن السبب في كون الأدباء العرب أعرضوا عن هذا النوع الأدبي وهو أن التعرض لمظاهر الفاسد في المجتمع الإسلامي كان له دعاته من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وكانوا يعتبرون الأمر من الجد بحيث لا ينبغي مقاومته بالأساليب الفكاهية ولكن بالبحث الجدي، لذلك امتازت الآداب العربية بمؤلفات في هذا الموضوع مثل "المدخل "لابن الحاج العبدري الفاسي، ومثل "شعب الإيمان" لعبد الجليل  القصري وكلاهما من أهل المغرب[1].
أما من الناحية الفكاهية لا تكاد تجد كتابا واحدا يعمد إلى هذه الطريقة للتشهير بما فسد من العادات والأخلاق، ومحاولة إصلاحها بأسلوب خيالي فكه يستعمل النكتة الظريفة والإشارة اللطيفة.
لعل القارئ يتساءل الآن ما هي علاقة هذا التقديم بالعنوان الذي يحمله هذا المقال، أظن أن السمة الفكاهية التي تظهر على هذه الإضافة الغريبة وهي تخيل إمكان التداوي من الموت تدلنا على العلاقة بالموضوع. وذلك أنه إن كان صعب على الكاتبين أن يتعرضوا بالنقد الفكاهي للشؤون الاجتماعية التي لها صلة وثيقة بالدين في المجتمع الإسلامي فإنه من الممكن انتقاد المظاهر الأخرى بهذا الأسلوب اللاذع.
ذلك ما حدا بأحد الأدباء من اهل مراكش من رجال القرن الماضي إلى وضع رسالة سماها "دواء الموت" وهي في الظاهر كتابة أريد بها التسلية والفكاهة كما قال عنها مؤلف "الإعلام، لمن حل مراكش وأغمات من الأعلام" رحمه الله في ترجمة صاحبها:"اشتمل على أدبيات ولطائف ونوادر ومستملحات" ولكنها في الواقع انتقاد مر لما كان وصل إليه التدريس والتأليف بالمغرب أيام الانحطاط حيث كان للمناقشات اللفظية والفروض الوهمية والاستطرادات الفارغة المقام الأول عند علماء تلك العصور، إذ كانوا يكتبون ويضعون الرسائل في كل شيء ظانين أن لهم القدرة على للتدليل بالحجج المنطقية على كل شيء، وما هي في الواقع إلا براهين سفسطائية وكلام فارغ. وتمتاز هذه الكتابات بأن الموضوع الذي يريد أن يكتب فيه المؤلف يصير ثانويا بالنسبة لتلك الاستطرادات الطويلة والتي لا تكون لها مناسبة مباشرة وكثيرا ما يدخلونها بقولهم: حكاية تنبيه، عجيبة، وهكذا. أما الموضوع الأساسي فيأتي في الأخير، وربما عرضوا له في صفحة واحدة أو أقل وسترى أن صاحب "دواء الموت" ذكره في ثلاث جمل.
ومن ذلك أنهم يبنون أحكامهم على مقدمات باطلة ويفترضون الفروض ويبررونها باستثناآت محذوفة، يعطونها قيمة الأمر الواقع الصحيح، ويبنون عليها أحكاما أخرى ويعتبرونها كأنها شيء مسلم يدخلونه في حساب قياساتهم واستنتاجاتهم.
هذا هو الأسلوب الذي اتبعه مؤلف هذه الرسالة للتدليل على إمكان المعالجة من الموت رادا على من اتهمه بالحمق بأنه "قد يدخر للمتأخرين ما لم يعط للأولين، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[آل عمران: 73.]"
صاحب دواء الموت
أما واضع هذه الرسالة الفذة فهو محمد السليطن السملالي المراكشي، وليس من الصدف أن يكون من أهل مراكش؛ هذه العاصمة التي اشتهر أبناؤها بروحهم المرحة ومحبتهم للنكتة وتفوقهم فيها، وإن كان أصله من سوس، فإنه استوطن مراكش منذ صغره وكان أحد علمائها الأكابر. قال العلامة المؤرخ ابن إبراهيم رحمه الله في أعلامه:"كان أستاذا فقيها مقرئا مجودا حافظا للعشرين مدرسا مفتيا حيسوبيا محققا عدلا موثقا ورعا زاهدا شيخ الجماعة بمراكش في القراآت."[2]
ورغم هذه الصفات الجليلة التي كان يتصف بها والتي تضفي عادة على حاملها حلة من الوقار والمهابة، فإنه كان صاحب دعابة وفكاهة تظهر أول ما تظهر في لقبه الذي لقب به نفسه. وذلك أنه لما أزمع الرحلة إلى مراكش وهو يعلم أن من أثر ما يتصف به أهلها من روح المرح والنكتة أنهم يطلقون ألقابا على كل أحد أيا كان شأنه عظيما أو حقيرا عالما أو جاهلا – عمد إلى اتخاذ لقب لنفسه فتسمى السليطن. وهكذا لم يترك مجالا للمراكشيين في تلقيبه بما لا يروقه.
وكان صلبا في الحق كثيرا ما "يتعرض في فتاويه على أحكام القاضي أبي عبد الله محمد عاشور ويفتي بنقضها" حتى أدى ذلك إلى أن ضاق به القاضي ذرعا، فأمر بسجنه إلا أن السلطان المولى عبد الرحمن بن هشام رحمه الله أمر بتسريحه في الحين لما كان يعلمه من فضله وورعه.
وقد تخلى في آخر حياته عن خطة العدالة حيث امر بالشهادة في قضية فامتنع من ذلك. وكانت وفاته أواخر دولة المولى عبد الرحمن الذي توفي سنة 1276 هجرية الموافقة لسنة 1859 عن نحو مائة سنة.
ولا شك أن هذا العمر الطويل، مع ما كان يراه عند علماء وقته في دروسهم وكتاباتهم من تعلق بالألفاظ وإقبال على الجدالات الفارغة والمناقشات السفسطائية، كل ذلك أوحى له بكتابة هذه الرسالة الي اعتبرها إنتاجا فريدا في بابه.
أسلوب الرسالة
ونلاحظ أن أسلوبها بسيط جدا والمؤلف يستعمل ألفاظا عامية مثل "تهنيت من الموت" أي استرحت منه، ومثل "طرشة" أي لطمة على الخد و "فقت من القلبة" أي استرجعن رشدي ونحو هذا من العبارات التي تناسب الموضوع الفكاهي من جهة والتي لا شك تعمدها الكاتب كذلك لينبه إلى ما يستعمله علماء وقته من الألفاظ الحوشية الغريبة والبعيدة عن أفهام الناس فكان يقول لهم:"خاطبوا الناس على قدر عقولهم كما أمرتم وانظروا كيف أنني أُفهم كل واحد لأنني لا أستعمل إلا الألفاظ السهلة العادية."
*     *     *     *     *
الحمد لله               هذه رسالة دواء الموت لسيدي محمد السليطن المراكشي
بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم
باب في دواء الموت حفظنا الله وجميع المخلوقات من الموت ونجانا منه جميعا آمين يا رب العالمين
الحمد لله المنفرد بالبقاء والدوام، والصلاة والسلام على سيد الأنام، وعلى آله وصحابته الكرام.
وبعد: فلما كبر سني، وضعف جسمي، وذهبت قوتي، و {بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيّاً}[مريم: 8] ومن العمر ستمائة يوم وستة وعشرين ألف[3] يوم، وتيقنت بالموت وتأملت قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 35] وقوله:{أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ}[النساء: 78] وقوله:{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ}[الرحمن: 26]. وقوله:{قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجمعة: 8]. ودخلني من الروع والأهوال والهموم والغموم ما لا أطيقه، فقلت: إلاهي وسيدي ومولاي هل لهذا الموت دواء أو لا؟ فجال فكري، وهام ذهني، وبحث قلبي، وفتش عقلي، فما يحفظني من الموت، وينجيني منه. فألهمني الله تبارك وتعالى لهذا الدواء العجيب، فاستنبطته وجربته بنفسي في نفسي فوجدته صحيحا، فذهب عني الروع، وزال عني ما دخلني آنفا من الأهوال والهموم والغموم، واضمحل ذلك من قلبي، واستأمنت من الموت وتهنيت منه. والحمد لله على ذلك، فأحببت أن أقيد هذا الدواء العجيب لنفسي ولجميع المخلوقات كلهم ليستعملوه ويتهنوا به من الموت كما تهنيت به أنا من الموت.
فإن قال قائل: يا هذا الأحمق بن الأحمق، شهادتك بالله هل عندك شيء من العقل أو إنما أنت أحمق الأحمقين، كيف تدعي محالا قطعيا وهو دواء الموت فلو كان للموت دواء لاستنبطه الأولون، ولو كان عندهم ما مات أحد منهم ولبقوا كلهم من آدم عليه السلام إلى الآن وإلى يوم القيامة. ما هذا منك إلا حمق كبير وعدم العقل، ألم تسمع إلى قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} إلى آخر الآيات المذكورات أو لم تسمع قول لامية العجم: [البسيط]
تبغي البقاء بدار لا ثبات بها              فهل سمعت بظل غير منتقل
وقول الآخر: [الطويل]
ولو عشت ألفا ثم ألفين بعده              فلابد من يوم تصير إلى القبر
وقول الآخر: [الطويل]
تزود من الدنيا فإنك لا تـدري          إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من صحيح مات من غير علة       وكم من سقيم عاش حينا من الدهر
وكم من فتى أمسى وأصبح لاهيا        وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
إلى غير ذلك من هذا المعنى، فالواجب عليك حينئذ يا هذا الأحمق إن قبلت النصيحة مني هو أن تتوب من دعواك دواء الموت وتستغفر من ذلك، وتبكي ليلك ونهارك. وكيف لا، وقد جاوزت أمد التعمير، الذي قال فيه الصادق المصدق صلى الله عليه وسلم:{أعمار أمتي من الستين إلى السبعين}[4]، وأنت جاوزت ذلك وتعديته، فأنت حينئذ محسوب من الموتى فلو كان عندك شيء من العقل لكنت تبكي ليلك ونهارك ولحظاتك. قلت الحق ما قاله لي هذا القائل والله. لكن قد يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر. وقد يدخر للمتأخرين ما لم يعط للأولين، {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }[آل عمران: 73.] كيف لا وقد جربت هذا الدواء العجيب بنفسي في نفسي غير ما مرة فوجدته صحيحا. وقد حضرني زمن الجذري وزمن بوحمرون وزمن الوباء وغير ذلك من الأمراض ولم أمت بشيء من ذلك على صحة هذا الدواء العجيب.
ومن جملة ما جربت به هذا الدواء العجيب مما هو قريب عهد هو أني كنت مريضا ذات يوم راقدا فوق دكان في بيتي فدخل عندي بعض الطلبة فسلم وجلس، وقال لي: الله يا سيدي ما هذا التفريط منك وما هذه الغفلة منك، أليس من عقلك التام تتفصل العقول، ومن عقلك الكامل تكتسب العقول، ومن عقلك الراجح تستمد العقول، وأنت الذي تربي للناس العقول، وأنت الذي تحض على الناس وتؤكد عليهم في استعمال دواء الموت وأن لا يفرطوا فيه، وأن لا يغفلوا عنه وها أنت يا سيدي قد فرطت وغفلت واستهزأت في استعمال دواء الموت، وها أنت ملازم للفراش تموت مجانا سبهللا[5]. فلما سمعت مقالته صرت كأنما ضربني في الحين دواء الموت فما خرج من عندي الطالب المذكور حتى خرجت معافى والحمد لله على ذلك، فجزمت وقطعت أيضا بصحة هذا الدواء العجيب ولم يبق عندي فيه شك ولا ريب[6].
فإن قيل: إن الآية الكريمة وهي:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} عامة في أن جميع المخلوقات يموتون حتى سي[7] محمد السليطن أجيب عن ذلك بأنه يقدر في العموم المذكور استثناء محذوف لأن الاستثناء من معيار العموم، تقديره في غير القرآن كل نفس ذائقة الموت إلا سي محمد السليطن. قلت: وهذا الاستثناء المحذوف فيه استثناء آخر محذوف سيأتي تقديره في آخر الكلام إن شاء الله والسر والحكمة في حذف الاستثناء المذكور هو الرحمة بالسي محمد السليطن والشفقة. وذلك أنه لو ذكر فإما أن يذكر ذلك الاستثناء مطلقا من غير تقييد بزمن ولا مكان كقولنا: إلا سي محمد السليطن، أو يذكر مقيدا بزمان ومكان كقولنا: إلا سي محمد السليطن الذي يكون يف القرن الثالث عشر في مراكش. فإن ذكر مطلقا فإن المخلوقات يتحيرون في زمانه ومكانه لينظروا هذا المستشفى من الموت: من هو؟ وكم قدر ذاته؟ هل قدر الرخ؟ أو على قدر الزرافة؟ أو على قدر الضب؟ أو على قدر النون؟ والرخ طائر عظيم الخلقة، والزرافة هي المذكورة في شرح سيدي المكودي[8]. قال:"خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها"، والضب حيوان بري لو دخل في الماء ساعات لمات، وهو مذكور في "دلائل الخيرات". والنون حيوان بحري لو خرج من البحر ساعة لمات. ولذلك يقال:"بينهما كما بين الضب والنون".
وإذا اجتمعت المخلوقات كلهم في مراكش فإنه يقع الغلاء في المشماش[9] "كذا" والباكور[10] ويكون عليهما الازدحام. ومن المعلوم من الدين بالضرورة أن ذات سيدي محمد السليطن قصيرة ضعيفة لا تقدر على الازدحام على المشماش والباكور ولأجل هذا حذف الاستثناء المذكور رحمة بالسي محمد السليطن وشفقة عليه والله أعلم[11].
واعلم أيها العاقل: أن هذا الدواء العجيب استنبطناه بالقياس على ما عند أهل التوقيت، وذلك أنهم نظروا فيما يعرف به الإنسان الوقت مما هو أيسر له وجودا، حضرا وسفرا، ولا يحتاج فيه إلى اشتراء شيء ولا إلى آلة كالأسطرلاب و[الـ]ـربع الـمُجَيَّب[12] والمكَانة[13] وهو معه حيث كان، فوجدوا ذلك هو: قامة الإنسان، فبظل قامة الإنسان يعرف الوقت كما قال في روضة الأزهار[14][C1] : [الرجز]
والارتفاع كل وقت يعرف       بالظل دون آلة ويكشف
وكذلك هذا الدواء العجيب، فقد نظرنا فيما يعرف به الإنسان دواء الموت، مما هو أيسر له وجودا، حضرا وسفرا، ولا يحتاج فيه إلى اشتراء شيء من الترياق الأكبر، والكبريت الأحمر، والمسك الأذفر، والذهب المشحر، وهو معه حيث كان فوجدنا ذلك هو: قامة الإنسان، فبكيفية في قامة الإنسان يعرف دواء الموت، وتلك الكيفية سيأتي بيانها إن شاء الله[15].
واعلم أيها العاقل: إن هؤلاء المخلوقات الذين يموتون في كل يوم في مشارق الأرض ومغاربها، مما لا يحصى عددا، إنما يموتون من (غشومتهم) وعدم معرفتهم بدواء الموت، ظنا منهم أن الموت ليس له دواء. فتجد الإنسان منهم يمرض ويئن فيقول: إيه إيه ويرقد ويغطي ويوسد له ويلازم الأرض والفراش؛ والأرض طبعها بارد يابس وطبع الموت كذلك بارد يابس فيلتقي عليه برودتان ويبوستان فيموت، ويقال"ارفد لباب أغمات إن كان بمراكش، ولباب فتوح إن كان بمدينة فاس، أو لمقبرة معظمة إن كان بغيرها كمصر والشام واليمن والعراق والهند والسند مثلا" ولو استعمل هذا الدواء العجيب ما مات أصلا.
واعلم أيها العاقل: إني تمنيت على الله أن لو عرف جميع المخلوقات هذا الدواء العجيب، فيستعملونه فلا يموت أحد منهم أبدا من سيدنا آدم إلى ويم القيامة، فيمشون من الدنيا إلى الجنة فيدخلون الجنة أحياء من غير موت ولا حساب ويتنعمون فيها على الدوام، لكن سبق في علم الله ما سبق، فخفي عنهم هذا الدواء العجيب فلم يعرفوه {لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] وقهر الله عباده بالموت، وما أغنى { عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ} [يوسف: 68] {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 107]، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ } [البقرة: 156].
لكن شاء الله حيث لم يعرف المخلوقات هذا الدواء العجيب في الدنيا فسيعرفونه في الآخرة، فيستعملونه فيها فلا يموت أحد منهم في الآخرة أبدا إن شاء الله لصحة هذا الدواء العجيب حتى من استعمله في الآخرة ومات فإني أعطي ديته {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ }[يوسف: 72].
تنبيه في حكاية تناسب المقام وهي أني كنت جالسا ذات يوم بابا مدرسة ابن يوسف مع طالب حاج يحدثني بأخبار المشرق، ومن جملة ما حدثني به أنه كان بمدينة منطا (مالطة[16]) ببلد الروم، فذر لي أن سلطان الروم وجه حكماء الروم لياتوه بدواء الموت، وجهزهم بمال كثير وبكل ما يحتاجون إليه ذهابا وإيابا، برا وبحرا، وساروا في الأرض لم يرجعوا ولا ظهر لهم خبر ولا أثر إلى الآن ولا زال سلطانهم ينتظرهم إلى الآن. فقلت له ولعلهم قصدوا أن يأتوه بماء الحياة من عين الحياة في بحر الظلمات التي شرب منها سيدي أحمد الخضر على نبينا وعليه الصلاة والسلام حيث كان مع سيدنا ذي القرنين وقصة ذلك مشهورة. لكن يصعب عليهم الوصول إلى تلك العين فقلت له: ويحهم -بحاء ولام- أي ويلهم، تركوا دواء الموت قرب أرجلهم، ويفتشون عليه ببعيد، بمنزلة من كان الماء قربه وتركه، وصار يفتش عليه ببعيد، فإن مراكش قريب من مانطا بالنسبة لبحر الظلمات فقال لي الطالب المذكور:"وكيف يا سيدي يفعلون حتى يدركوا دواء الموت فقلت له: يرسل سلطانهم لسلطاننا، سيدنا ومولانا عبد الرحمن نصره الله مائة قنطار ومائة مثقال مع كتاب فيه: بعد السلام يا أمير المومنين هذه المائة قنطار هي هدية لد سيدي خذها لك، وهذه المائة مثقال الزائدة عليها أعطها – يا أمير المومنين- لرجل الأدب هناك بمراكش يقال له: سي محمد السليطن (فتوحا)[17] له على دواء الموت الذي عنده يكتبه لنا. فنكتب لهم دواء الموت فيستعملونه فلا يموت منهم احد أبدا، وحيث لم يرسلوا لنا ذلك فلا نرسل لهم دواء الموت {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى} الزخرف83 يموتوا كلهم هدرا مجانا فيقول لهم لسان الحال: هذا جزاء من لم يبحث عن دواء الموت ولا يعطى عليه ماله. انتهت الحكاية المذكورة.
وهذه كيفية دواء الموت الموعود بها آنفا، فاستحضر لها أيها العاقل بالك وذهنك وعقلك كما قال ابن عاشر رضي الله عنه:"وإن ترد ترتيب حجك إلخ.. وهي أنك مهما أحسست بشيء في ذاتك ولا تراخ فإذا قمت بشرعة فأنت مخير بين أمور ثلاثة: إما ان تمشي برجليك حتى (يطلقك الحال) ويذهب ما بك، فإن كنت تمشي او تجري فلا تحتاج لشرط، وإن وقفت قائما فلا بد من ثلاثة شروط وإن اختل منها شرط فلا أضمن لك شيئا ولا شيء علي، وتلك الشروط هي: أن تقف قائما استبدادا ولا تستند إلى شيء ولا تتكئ على شيء ولا تتمسك بشيء ولا تزال واقفا قائما حتى يطلقك الحال ويذهب ما بك فهذه كيفية دواء الموت، تمت وبالخير عمت[18].
واعلم أيها العاقل أن فائدة تلك الشروط الثلاثة ظاهرة، وهي أن الوقوف قائما استبدادا من غير استناد ولا تمسك ولا اتكاء على شيء لأن الموت لا يأتي للانسان غالبا إلا إذا رقد أو استند أو اتكأ أو تمسك بشيء ألم تر إلى نبي الله سيدنا سليمان على نبينا وعليه الصلاة والسلام إنما خر وسقط حيث اتكأ على عكاز وجاءت دابة الأرض حتى وصلت ذلك العكاز وصارت تأكله و(تخوخه) حتى انكشر فخرّ نبي الله وطاح كما ذكر في القرآن العظيم فلو لم يتكئ على عكاز وبقي واقفا استبدادا واستقلالا من غير استناد ولا تمسك ولا اتكاء لبقي قائما واقفا إلى يوم القيامة. فإياك ثم إياك أيها العاقل إذا أحسست بشيء أن ترقد أو تستند أو تتكئ او تتمسك بشيء، فالواجب عليك أيها العاقل إذا أحسست بشيء هو ان تجري برجلك وتلازم جريا أو هرولة أو خببا او رملا او مشيا كما قال ابن عاشر: [الرجز]
وارم ثلاثا وامش بعد اربعا           خلف المقام ركعتين اوقعا
وهذا تقدير الاستثناء المحذوف من الاستثناء المحذوف الموعود به آنفا تقديره في غير القرآن: كل نفس ذائقة الموت إلا السي محمد السليطن فلا يموت أبدا إلا إذا تم أجله وانقضى عمره فيموت حينئذ من غير شك في ذلك ولا ريب والسلام. ولكن هذا على أحد التقديرين في القاعدة المشهورة وهي قولك: كل مخلوق سيموت إلا العرش والكرسي واللوح والقلم والأرواح والجنة والسي محمد السليطن وجهنم فلا يموتون. وهذه القاعدة مشتملة على المستثنى والمستثنى منه وعلى العاطفين المحذوفين أحدهما عطف اغياء والآخر عطف مطلق وعطف الاغياء هو ما كان بحرف حتى كما قال ابن مالك:
بعضا بحتى اعطف على كل ولا         يكون إلا غاية الذي تلا
وعطف المطلق هو ما كان بالواو كما قال ابن مالك:
واعطف بواو سابقا أو لاحقا         في الحكم أو مصاحبا موافقا
فإذا قدرنا أن السي محمد السليطن معطوف على المستثنى منه يكون هكذا:"كل مخلوق سيموت إلا العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والسي محمد السليطن وجهنم فإنه يحكم بأنه لا يموت أبدا." والسلام. وقد جمع بعضهم مالا من المخلوقات فقال: [الرجز]
سبع من المخلوقات غير فانية           اللوح والقلم ثم الهاوية
والعرش والكرسي والأرواح           وجنة في ظلها نرتاح
وعدل عن ثمانية إلى سبع ليتزن له البيت، كما أنه حذف الواو مع معطوفها بعد لفظ "وجنة" ليتزن له البيت وللاختصار وللعلم بالمحذوف، كما قال ابن مالك:
والفاء قد تحذف مع ما عطفت        تقول زيد بعد من عندكما
والتقدير: والأرواح وجنة والسي محمد السليطن. وقد تقدم في السر في حذفه عند كل نفس ذائقة الموت إلا السي محمد السليطن وهو الرحمة بالسي محمد السليطن والشفقة عليه لضعفه والله ألعم وترتيب المخلوقات الذي لا يموتون هكذا:
1
2
3
4
5
6
7
8
اللوح
والقلم
والهاوية
والعرش
والكرسي
والأرواح
والجنة
والسي محمد السليطن
كما رتبت منظومة. وكانت ثمانية قياسا على جملة العرش العظيم فإنهم ثمانية وأسماؤها:
1
2
3
4
5
6
7
8
حول
وقوة
ونعيم
وصادق
وغافر
وبادئ
ورضوان
وحنين
فتبين بهذا أن الأرجح والأشهر من التقديرين في القاعدة المذكورة هو أن السي محمد السليطن لا يموت لكونه معطوفا على الجنة، والجنة لا تموت للقاعدة أن المعطوف تابع للمعطوف عليه والدليل القاطع والبرهان الساطع على ذلك هو قول صاحب الأجرومية فغن عطفت على مرفوع رفعت أو على منصوب نصبت، إلخ.. والله أعلم واحكم.
عبد ربه السيد محمد السليطن
غفر الله له



[1] - من مميزات الفكر المغربي الاهتمام بالشؤون العامة والثورة على الأوضاع الفاسدة مما يحتاج إلى دراسة خاصة لتجليته، ويكفي أن أهم دولة حكمت البلاد المغربية أسست على دعوة من هذا النوع، ترتكز على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعني دولة الموحدين.
[2] - انظر كتاب "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام تأليف: المؤرخ المرحوم العباس بن إبراهيم، فاس سنة 1358/1939 ج 5 ص 319.
[3] - كتب هذه الرسالة إذن عندما بلغ خمسا وسبعين سنة قمرية من عمره.
[4] -
[5] - جاء سَبَهْلَلاً لا شيء معه. ويقال: جاء سَبَهْلَلاً يعني الباطل. ويقال: جاء فلان سَبَهْلَلاً أَي ضالاًّ لا يدري أَيْن يَتَوَجَّه. وفي الحديث:{لا يَجِيئَنَّ أَحدكم يوم القيامة سَبَهْلَلاً}؛ وفُسِّر فارغاً ليس معه من عمل الآخرة شيء. [سبهل]. المحقق.
[6] - كل هذه المقدمات وهو لا يذكر شيئا عن هذا الدواء العجيب وسيستمر في الاستطرادات والرد على الاعتراضات التي ربما توجه إليه ومناقشتها بكيفية جدية.
[7] - اختصار لكلمة "سيدي" وهو لقب تشريفي يطلق في المغرب احتراما وتقديرا للشخص. المحقق.
[8] - علي بن صالح الفاسي النحوي (801هـ). الدرة: 3/84. الجذوة: 403. بغية الوعاة: 2/83.
[9] - أي المشمش.
[10] - والباكُورُ من كل شيء: :المعَجَّلُ المجيء والإِدراك، والأُنثى باكورة؛ وباكورة الثمرة منه. [بكر]
[11] - تسود هذه القطعة روح فكاهية وسخرية لاذعة يدركها كل من تعود على الانتاجات الفقهية المتأخرة وغيرها.
[12] - آلة عامة لجميع العروض  سميت بالربع المجيب، أما الربع فلأن القوس الذي بها هو ربع دائرة، أما المجيب فهي لاحتوائها على خطوط الجيوب.. كشف الظنون 1/876.
[13] - مكََانة بكاف معقودة أي الآلة التي يعرف بها الوقت، أصل الكلمة يوناني (Magganon).. تحفة الملك العزيز للعمراوي: 59، تعليق: زكي مبارك، طنجة 1989.
[14] - هو كتاب "روضة الأزهار، فِي علم وقت الليل والنهار"وهي أرجوزة في التوقيت لناظمها عبد الرحمن بن محمد المديوني الجادري (818هـ) فقيه محدث ونحوي وحيسوبي، ولد بمكناس وسكن فاس حيث تولى خطة التوقيت بالقرويين. ترجمته في: شرف الطالب: 138، لقط الفرائد: 239، درة الحجال: 3/87، جذوة الاقتباس: 2/404، كفاية المحتاج: 1/274..
[15] - وهكذا فكل ما يتعلق بصلب الموضوع سيأتي إن شاء الله على طريقة المؤلفين المتأخرين.
[16] -
[17] - الفتوح ويجمع على فتوحات كلمة مغربية لما يعطى للأولياء ولمت ترجى بركته مقابل دعاء أو كتابة حجاب أو نحو ذلك.
[18] - قد تعمد أن يذكر المقصود بالذات من الكتاب في هذه الجمل القليلة تعريضا بمن يضعون الكتب الفارغة في مواضيع لا يستطيعون فيها لضعف الملكة فيعوضون ذلك بالاستطرادات والكلام الفارغ.


 [C1]

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قراءة في كتاب “الخط المغربي”

الخط المغربي، تاريخ وواقع وآفاق قراءة في كتاب “الخط المغربي”  تأليف الأستاذين محمد المغراوي وعمر أفا  أحمد السعيدي “الخط المغربي، تاريخ وواقع وآفاق”، تأليف الأستاذين: محمد المغراوي، وعمر أفا، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء،  1428هـ / 2007م ،  191  ص من القطع المتوسط. يُعد المؤلّفان من ورثة المدرسة المدرسة المنّونية [1]  في الاعتناء بالخط المغربي، إذ عُرف عنهما المزاوجة بين البحث في تاريخيْ المغرب الوسيط والمعاصر، والاشتغال بقضايا الخطّ المغربي تنظيرا وممارسة، فالكتاب المومى إليه ثَمَرَةَ الإحساس بقيمة المنجز الحضاري المغربي على جميع الأصعدة بما فيها فن الخط. وحاصل القول أن الكتاب لا غُنية عنه لدارس الخط المغربي والعربي والباحث في قضايا المخطوطات وتاريخ الفن الإسلامي والجماليات وعلم الصورة.. ولعل المؤلفين تَمثَّلا خلال انقطاعهما لهذا العمل الرصين قول خليل في المُختصر:”وقُدِّمَ فَرضٌ   خِيفَ   فَواتُه .” تاريخ الخط المغربي وخصائصه: تطرق المؤلفان في القسم الأول “تاريخ الخط المغربي وخصائصه” إلى عرض مركّز لمسار الخط العربي م

صدر حديثا: مشاركة في كتاب جماعي عن العلامة أبي سالم العياشي

مخطوط فريد في ترجمة أبي سالم العياشي: " إرفاد الوافد القاصد" لحفيده مَحمد بن حمزة (بعد 1135ه) أحمد السعيدي جامعة ابن زهر- أكادير تلقي المقالة الضوء على مخطوط فريد  ودفين لأحد علماء الزاوية الحمزية العياشية، وهو "إرفادُ الوافدِ القاصِد، وبَرْدُ غُلَّة المسترشِد الراشِد، بإنشاد الشّارد، من شعر الجدّ والوالد، ومُشيَّد بعض الأسانيد والمَساند"، لمَحمد بن حمزة بن أبي سالم العياشي، مؤلف كتاب "الثغر الباسم في جملة من كلام أبي سالم". وقد كان هذا المخطوط في عِداد التآليف المفقودة إلى حدود ثمانينيات القرن الماضي، حيث ريء -حسب بعض الباحثين- في الخزانة الفاسية للفقيه العابد الفاسي، قبل أن يخرج إلى الوجود ويظهر في مكتبة عبد العزيز آل سعود بالدار البيضاء في أوائل القرن الحالي. ومع ذلك ظل هذا المخطوط –مثله مثل الزهر الباسم- رهين حاله الأولى ولمّا يحقق وينشر، ولعل هذه الأسطر هي أول معرّف به وواصف لما ساقه من آثار عالمي العياشية الجد أبي سالم والوالد حمزة ومن إليهما من بقية هذه الأسرة العلمية المشتهرة. وحسْبُ هذه الأسطر التعريف والوصف تمهيدا لخروج المخطوط إلى د